18 sept. 2007

يحسبون أنهم يحسنون صنعا


في مقالي السابق " شهر العبادة والتقوى" حاولت تبيان كيف أن شخصا يصادر عقله بنفسه ويصرّ على ذلك.وإن كنت مناهضا عنيفا لمصادرة العقل فذلك لأن هذه المصادرة تشجع كل أنواع الشعوذة على الازدهار والانتشار وتسمح لمئات الجهلة والذين يقولون عن أنفسهم متضلعين في الدّين من نشر خرافات وأقاويل لا صلة لها بالنص القرآنيفقد تأسس خطاب، بالتوازي مع النص القرآني، يلوي عنق النص ولا يستشهد به ولا يستقي حججه منه بل يحاججك البعض بمسلمات سمعها وقيلت له ولا يعرف لها مصدرا وأغلب هؤلاء لم يقرؤوا القرآن ولو مرة واحدة في حياتهم .وتنحصر كل مكتسباتهم حول الدّين في بعض ما استمعوا له من الدجالين بقنوات البترودولار و المسلسلات التي تمجد الإسلام وزعماء الإسلام الذين اكتسبوا صفة الزعامة عن طريق توحشهم وفضاضتهم في قتل معارضيهم مثل خالد بن الوليد أو معاوية في قتله للحسين بن عليوأذكر من ذلك نقاشا مع أحد هؤلاء حول طرد الله لآدم من الجنة حيث قال أن الجنة التي أطرد منها آدم ليست بالجنة التي وعد بها الله المؤمنين.فقلت وما دليلك في ذلك وأحظرت له كتاب القرآن. فقال أنه لا يذكر أين قرأ هذا التفسير. فقلت هذا ليس بتفسير هذه حكاية أخرى وأتيت له بالتوراة ليجد التفسير الذي قال عنه. فأغلب ما ينعت أنه تفسير للنص القرآني نقله المتضلّعون في الدين عن التوراة حرفيا ولا علاقة له بالنص بل لا يمنعهم القول بأن التوراة محرّفةفالقول بأن شهر رمضان مقدس يجرنا لمعرفة من أين يستمد قدسيته؟ فقد ذكر بالقرآن "الأرض المقدسة" "والوادي المقدس" أما رمضان أو الصيام فلم يرتبط قط بالقدسية فقد ارتبط فقط بالعقاب
وحين تعرضت في مقالي المذكور لعلاقة العقاب برمضان، فوجئ بعض المعلّقين بذلك واعتبروه تأويلا. يعني أن هؤلاء الأشخاص يتمسكون بتأويل خاص جدا بهم لا يستند للنّص ولا قرائن تؤيد تأويل "هم" وحين تجابههم بما يقوله النص حرفيا يقولون إنه تأويل. فقد علق أحدهم قائلا"قل هل ننبّئكم باﻷخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا"يا أخا العرب، هل يعني أنه يجب أن ألوي عنق النص القرآني وأقول أن شهر الصيام مقدس في حين ليس هناك آية واحدة تدل على ذلك أو أقول أنه مفيد للصحة فلا القرآن قال بذلك ولا العلم الحديث ولا القديم .الأخسرون أعمالا هم من قوّلوا القرآن ما لم يقلهفحين يقول القرآن بعدم الصيام أثناء السفر، فذلك لعلمه أن السفر يستدعي مجهودا والصائم يفتقد لذلك المجهود بفعل الصيام. إذا فالأعمال التي تستدعي مجهودا يعيقها شهر الصيام. لم يذكر القرآن الأنشطة الأخرى لسبب بسيط أن النشاط الرئيسي بالجزيرة العربية هو السفر والتّرحال أثناء فصول محددة وبالتالي لديهم الوقت الكافي للتعويض. لكن منذ ذلك التاريخ ظهرت أعمال أكثر مشقة من السفر كالعمل بمناجم الفحم أو الحديد أو الفوسفات وقيادة الشاحنات الثقيلة بين القارات وأشغال البناء بالعمارات وأعمال أخرى كثيرة منها أعمال غاية في الدقة تستوجب تركيزا هائلا كالمخابر الطبية أو أماكن البحث العلمي في ميدان الذرة وغيرها إذ لا يمكن لأصحابها القيام بالصوم وليس لديهم مجالا للتعويض
فالعالم لم يبق على صورة الجزيرة العربية القاحلة التي بها نشاط واحد: السفر. فالسفر كان شاقا في الماضي ولم يعد كذلك بفضل العلم وما وفره من إمكانيات للسهر على راحة المسافرينأما التعليق الثاني"أنت ممن يصح فيهم قولمن تمنطق تزندق، و من تزندق رمي في النار"و بما أنك "تتقن" التحليل أو بالأحرى تحلل المسائل "بشكل عقلاني"، فإنك ستعرف مكانك أينإن اعتبار النشاط الفكري بشكل عام والاشتغال على المنطق بشكل خاص جريمة هي من مآثر "الفكر" العربي الإسلامي وقد دفع ابن رشد وغيره ضريبة باهظة. فلا زال العقل الخرافي الذي يحكمه من جهة الطمع والجشع للظفر بغنيمة حور العين والغلمان والفاكهة واللّحم الشهي والأرائك المبثوثة، ومن جهة أخرى الإرهاب بأنه سيصلى نار ذات لهب وسيبدّل جلده عديد المرات ليذوق العذاب، ما زال هذا العقل يرسي بضلاله على خير أمة أخرجت للناس.و قد بلغ البؤس الفكري ذروته في تعليق يعتبر علماء الدّين (و لا أعلم أي علم لديهم) بمثابة الأطباءفالقرآن والسلوك اليومي للصائمين ،في عصرنا الحاضر، يثبت أن الصيام عقوبة فلماذا يكابر البعض ويراوغ لنفي ذلك؟لماذا ليس لديهم القدرة على التعاطي مع الأشياء كما هي؟ أعتقد أن السبب بسيط وقد أدركه القرآن منذ أمد بعيد :إنه النفاق إنها مجتمعات لديها كفاء ة وحيدة وهي تطوير النفاق. فتجدهم يعانون ويلات الحرمان من الماء ومن الغثيان وعدم التركيز ويترقبون بكل لهفة انزياح شهرهم المقدس ويحتفلون بنهايته وليس ببدايته ورغم ذلك يقولون إنه مقدس ومبارك ونافع للصحة والمعدة. فهو شهر تتعطل به الحياة العادية ويضطر الناس إلى التعويض عن ذلك بحياة ليلية عوضا عن التي حرموا منها خلال النهار ولكن يقولون إنه شهر النشاط. تجده أحدهم نائما بعمله مكفهرّ الوجه عبوسا وفي الآن نفسه يمجد فضائل الشهر المقدس.فالويل لهم من ربهم الذي له دراية واسعة بالنفاق.فهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا

Aucun commentaire: