14 sept. 2008

في الدين والدنيا




المصدر ايلاف
العفيف الأخضر
"الكتاب المقدس يعلمنا كيف نمشي إلى السماء، لا كيف تمشي السماء" (غاليلو في دفاعه أمام محكمة التفتيش)

منذ حرب 67، التي كانت بداية سقوط العرب جمهورا ونُخبا في الهذيان الجماعي، كنتُ أطرح باستمرار هذين السؤالين على مَن التقي به: لماذا انتصرت إسرائيل في الحرب؟ ولماذا تـَقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ فكان الجواب بنسبة عالية: انتصر اليهود لأنهم تمسكوا بدينهم، وانهزمنا لأننا تخلينا عن ديننا فتخلى الله عنا؛ أما الغرب فقد أخذ علومه من القرآن، لم نأخذها نحن منه لأن حكامنا حادوا عن شرع الله فعاقبهم الله بحجب أسرار القرآن العلمية عنهم... ويوم يحكمنا من يطبقون الشريعة فسنكتشف في القرآن علوما جديدة نتفوق بها على ما أخذه الغرب منه، وهو قليل من كثير. ما سمعته، كان في الواقع صدى لما يقدمه الخطاب الديني من إجابات على السؤالين. إذا كان القرآن موسوعة علمية فلابد من تفسير ديني لتخلف المسلمين بجعله عقابا إلهيا لهم عن "كفر" حكامهم ومجتمعاتهم التي لم يبرز منها علماء يستنبطون منه نظريات علمية للنهوض بالمسلمين. فالحقائق العلمية القرآنية تتطابق تطابقا مطلقا مع الحقائق العلمية. فما وصل إليه العلم بالبحث وصل إليه الإسلام بالوحي. هذا الخطاب، المُذنّب، جعلت منه الحركات الإسلامية تجارةً رابحة للحث على الثورة الإسلامية والتحريض على تكفير تقليد الحداثة الغربية. هذا التقليد الذي أعمى بصائرنا عن اكتشاف العلوم التي أودعها الله في قرآنه. تخليص الوعي الجمعي، من أساطير هذا الخطاب الديماغوجي الضار بمستقبل العلم في أرض الإسلام، ضروري لتسريع انتقال الشعوب العربية إلى الحداثة التي من دونها سنبقى مجرد متفرجين سلبيين على تقدم باقي شعوب العالم. من هنا ضرورة إعداد خطاب عقلاني، تعليمي وإعلامي يقدّم للناشئة والجمهور معا تحليلا واقعيا لواقعتي التفوق الإسرائيلي والتقدم الغربي. التفوق الإسرائيلي لا يعود إلى تمسك اليهود لدينهم. فهم أقل شعوب الشرق الأوسط تدينا؛ موشي دايان، بطل حرب 67، كان، في فلسطين الانتدابية، يكتب على بطاقة هويته في خانة الديانة "ملحد". بل أن أهم أسباب هذا التفوق يعود إلى جودة التعليم الإسرائيلي حتى قبل قيام الدولة. والتقدّم الغربي لا يعود إلى أخذ العلوم العَلمانية من القرآن، بل من استخدام قوانين العقل لاكتشاف قوانين الطبيعة عبر المدرسة العَلمانية التي كونت النخب الصانعة لهذا التقدم. ولم تضيّع دقيقة واحدة في الثرثرة عن براهين وجود الله، ولا في الهذيان عن معرفة أقصر السبل لتأمين الغربيين على مستقبلهم بعد الموت كما تفعل المدرسة الإسلامية! وتخلف المسلمين لا يعود إلى تخليهم عن دينهم، بل بالأحرى إلى التسمّر والغلوّ فيه، بتحويله إلى قائمة طويلة من الفتاوى التي تحرّم وتجرّم تقليد اليهود والنصارى في مؤسساتهم وعلومهم وقيمهم وأسلوب حياتهم. والحال أن الأمم التي انتقلت إلى الحداثة مرّت بـ"تقليد" اليهود والنصارى. لا سبيل للإفلات من هذا الفخ الذي نصبناه لأنفسنا إلا بتفكيك أسطورة أن "القرآن موسوعة علمية" التي شكّلت وما تزال عائقا ذهنيا أعاق وعي النخب عن تقليد الثورة العلمية الغربية التي قلدتها نخبُ اليابان والصين والهند وجنوب شرق آسيا وأميريكا الجنوبية... فأخرجت شعوبَها من تخلفها العلمي الذي هو الجذر التربيعي لباقي مظاهر التخلف الأخرى.تفكيك أسطورة أن "القرآن موسوعة علمية" يتطلب معرفة جذورها؛ بكل اختصار، بعد فتح الشرق الأوسط دخلت النخب الإسلامية في جدال ديني ساخن مع النخب المسيحية والمانوية. كلام المعتزلة، مثلا، كان مرصودا في الأصل للرد على النصارى والمانوية. هؤلاء الآخرين شُنّت عليهم منذ خلافة المهدي حرب إبادة! وجّه النصارى للفقهاء والمتكلمين المسلمين سؤالا محرجا: لماذا لم يُعط نبيكم معجزات مثل التي أعطيت لموسى وعيسى؟ ردّت النُخب الإسلامية بردّين ارتجاليين. الأول باختلاق حشد من المعجزات لنبي الإسلام لم ترد في القرآن بل أن القرآن نفاها عنه معترفا له بمعجزة واحد هي القرآن نفسه؛ والثاني اعتبار أن معجزة القرآن هي التطابق مع علوم الأوائل والأواخر. فسّر الفخر الرازي "علميا" الآيات "العلمية" في القرآن؛ وأكد ابن القيم تطابق "علم الأجنّة" القرآني مع علم الأجنّة عند الطبيب اليوناني جالينوس Galien الذي لم يعد متطابقا مع علم الأجنّة المعاصر؛ وألّف السيوطي "الإكليل في استنباط التنزيل" لتأكيد أن كل العلم في جوف القرآن، كما خصص في كتابه: "الاتقان في علوم القرآن" فصلا عن "العلوم المستنبطة من القرآن" جاء فيه: "أما أنواع العلوم (في القرآن) فليس منها باب ولا مسألة إلا وفي القرآن ما يدلّ عليها" (ج2 ص 129). أما منذ القرن 19، عندما اعترف المسلمون نهائيا بانحطاطهم، فإنهم شرعوا يبرئون القرآن من هذا الانحطاط الذي عَزوْه، في المقابل، إلى تخلّي المسلمين عن القرآن. "النهضة" التي قادها الأفغاني وعبده كانت، في الواقع، دفاعا عن براءة الإسلام من انحطاط المسلمين. وعاد من جديد التفسير العلمي للقرآن على نحو أكثر هذيانا. لعل أكثر التفاسير "العلمية" المتجددة تأثيرا هو "الجواهر في تفسير القرآن الكريم" تأليف طنطاوي جوهري الذي أكد فيه وجود "علم الذرّة" في القرآن! هذا التفسير هو المصدر الأساسي لانتشار أسطورة أن القرآن موسوعة علمية الشائعة اليوم التي تلقفها مذ ذاك كثير من المؤلفين مثل محمد سليمان في "القرآن والعلم" وكثير من المؤلفين الآخرين قبله وبعده فضلا عن بعض الأطباء الإسلاميين. ولا شك أن تكرار وصف الهي في القرآن بأنه "لكل شيء عليم" عزز الاعتقاد بهذه الأسطورة؛ فكيف لا يعلم الله العليم بكل شيء حقائق العلم؟ لاحظ محي الدين يحيى، الأستاذ في دار الحديث الحسينية بالرباط والاخصائي في الفقه والفكر الإسلاميين الكلاسيكيين، في مقاله عن "العلم" في القرآن في "معجم القرآن" أن "القرآن لم يستخدم أبدا الجمع (علوم) التي عَيّنت في ما بعد حصرا "العلوم" مما يوضح بما فيه الكفاية الفرق بين العلم القرآني والعلوم المتأخرة الموزعة على فروع علمية مستقلة. إذا كان القرآن لا يحتقر المعارف التي يمكن استخلاصها من الأمم الغابرة أو من ظواهر الطبيعة. فإنه لا يرى فيها فائدة إلا من منظور الخلاص الروحي. بل أن القرآن يحذر المؤمنين أيضا من المخاطر الكامنة التي تحتوي عليها علوم المحسوس" (معجم القرآن، ص 799، والصادر بالفرنسية بإشراف الباحث محمد علي أمير معزّي، الأخصائي في الفقه والتفسير؛ وهو معجم مهم ينتظر محسنا للعلم للانفاق على ترجمته إلى العربية). وهكذا فالعلم في القرآن لا علاقة له بمفهوم العلوم الحديثة القائمة على البرهانين العقلاني (الرياضي) والتجريبي، التي لم تظهر لأول مرة إلا في القرن 17 مع فجر الثورة العلمية. بل لا علاقة له حتى بمفهوم العلوم اليونانية والرومانية والهندية والصينية والفارسية القائمة على الحدوس والظنون والملاحظة التي لا تتوفر فيها كل شروط الملاحظة العلمية. بل هذه العلوم هي "العلوم المذمومة" في الإسلام. العلم القرآني هو "نورٌ يقذفه الله في قلب المؤمن" كما يقول الإمام مالك. أما "العلوم الدخيلة" أو "علوم الأعاجم" من الطب إلى الفلك مرورا بالمنطق والفلسفة: "فلم تكن تُدرس في دروس التعليم الديني التي كانت تُلقى في الجوامع والمدارس بل أن دخول علوم الأعاجم في العلوم الدينية اعتبره أهل الحديث غزوا خطيرا يضع جوهر الإسلام نفسه في خطر. من هنا جاء رد الفعل العنيف أحيانا ضد المذاهب الجديدة الموسومة بالبدعة المذمومة، إذ أنها لا أساس لها في القرآن، إنْ لم تكن في تعارض صريح مع معطيات الوحي. حارب مسلمون كثيرون من جميع المذاهب مَن كانوا، في نظرهم، يعطون تأثيرا لأمثال أفلاطون وأرسطو أو جالينوس أكثر مما كانوا يعطونه لكتاب الله" (معجم القرآن، صص 803 – 804).ما أشبه الليلة بالبارحة! ما زال الأحفاد يواصلون حرب أسلافهم على "العلوم الدخيلة" التي "لا تتفق مع كتاب الله" مثل الكوسمولوجيا الفلكية الحديثة وعلم الأجنة الحديث والجغرافيا الحديثة التي لا تتفق مع الكوسمولوجيا القرآنية وعلم الأجنة القرآني ولا مع الجغرافيا القرآنية التي تؤكد وجود 7 أراضين... مما ترتب عنه عمليا إقصاء العلوم الحديثة التي "لا تتطابق مع كتاب الله" وبما أن كل العلوم لا تكاد تتطابق مع كتاب الله، فقد أقصيت إما من المؤسسة المدرسية وإما من وعي المسلمين بتكفيرها. وهذا ما ترتبت عنه نتيجة أدهى: رُهاب قطاع من الشباب المتعلّم من العلوم التي يدرسها، حتى في الجامعات الغربية، وهو يعي أنها تتناقض مع "حقائق دينه" "العلمية". وهذا ما قد يفسر كارثة أن طلبة وأساتذة في الكليات العلمية الإسلامية مازالوا يعتقدون في صحة الأساطير البابلية التي ترجمها أحبار السبي البابلي عن ملحمة جلجامش وغيرها من الأساطير في "سفر التكوين" التوراتي عن خلق الكون، من 7 آلهة في 7 أيام، وخلـْق آدم من صلصال وخلـْق حواء من ضلع آدم – الذي فسره فرويد بأنه فانتازم استمنائي – وطوفان نوح، ونوح نفسه الذي عاش 950 عاما، والشمس التي تغرب في عين في الأرض فيها "طين أسود" الى آخر قائمة الأساطير الطويلة التي صنفتها البشرية المفكّرة، منذ قرنين على الأقل، في ارشيفات الأساطير...المسؤول عن استمرار هذه الكارثة ليس الحركات الإسلامية التي تدافع عنها كحقائق علمية. فهذه الأخيرة لا تفعل شيئا غير القيام بدورها كحركات معادية للحداثة مؤسسات وعلوما وقيما عقلانية وإنسانية... بل المسؤول الحقيقي هو صنّاع القرار التربوي الذين لم يقدموا للتلامذة والطلبة مناهج مماثلة لمناهج التعليم في العالم، حتى في أفريقيا جنوب الصحراء، حيث يدْرس التلامذة، مثلا، مبادئ نظرية التطور عن تكوّن الحياة النباتية والحيوانية انطلاقا من البكتريا وحيدة الخلية في المحيط البدائي منذ زُهاء 4 مليار سنة؛ وليس من عدم Ex Nihilo كما تقول الرواية الأسطورية – الدينية عن "الزوجين الأولين": آدم وحواء... كما يدرسون ملحمة تطور الإنسان من قرد إفريقي منذ حوالي 8 ملايين عام هو ابن عم الشمبانزي الذي يشاركننا في 99% من البرنامج الجيني. علما بأن جينات الحمار والفرس متماثلة بنسبة 96% فقط ومع ذلك ينجبان البغل. لماذا؟ لأنهما تطورا عن جَد واحد. هذه الحقائق الأولية التي غدت مسلّمات بديهية للوعي العلمي العالمي ما زالت تثير سُعار فقهاء الإسلام المتمترسين وراء يقين أعمى في الرواية التوراتية – القرآنية الرمزية. أصدر شيخ الأزهر سنة 2000 قرارا بحظر طبع أي كتاب عن نظرية التطور بعد نشر د. عبد الصبور شاهين كتابه "أبي آدم"!تاريخ الصراع بين العلم والدين يعلمنا استحالة نجاح الدين في إرغام العلم على التطابق معه لأنهما ينتميان إلى حقلين معرفيين لا يجمعهما قاسم مشترك. حقائق الدين إيمانية ثابتة وكاملة وبالمقابل حقائق العلم عقلانية، تجريبية ومؤقتة وأبعد ما تكون عن الكمال. فهي فرضيات في تطور لا ينتهي من الأقل دقة إلى الأدق، ومن تفسير محدود لبعض الظواهر إلى تفسير أكثر اتساعا. وهكذا فالحقيقة العلمية خاضعة لسنة التطور والتصحيح الذاتي المتواصل. تاريخ العلم يبرهن على أن المعارف البشرية في لحظة ما هي مجموع الفرضيات المتنافسة التي أُعتبرت صحيحة مؤقتا ثم تم تعديلها لاحقا بفرضيات جديدة أكثر تفسيرا لعدد أكبر من الظواهر وبأخطاء أقل وهكذا دواليك. إذن فرض ضوابط إسلامية على البحث العلمي هو جناية على الإسلام والعلم معا
تخليص الوعي الجمعي الإسلامي من عائق أن القرآن موسوعة علمية لن يتحقق بمجرد توقف المدرسة عن حشو أدمغة التلامذة والطلبة بها. فهناك مدرسة بلا جدران من 6 آلاف موقع إسلامي تقصف بلا توقف رؤوس الشباب بالأساطير المعادية للعلم.ه
بل بالأحرى يتحقق بتدريس وُجْهتي النظر العلمية والدينية المنافيتين لهذه الأسطورة؛ لماذا لا تُدرج فقرات من هذا المقال في المقررات المدرسية؟ ولماذا لا تُدرس آراء فقهاء الإسلام الذين عارضوا هذيان التفسير العلمي للقرآن منذ الشاطبي الذي فند هذا التفسير بواقعة أن القرآن خاطب العرب الأميين على قدر عقولهم ووفق علومهم المعروفة في زمانهم فـ"الشريعة أميّة لنزولها في قوم أميين (...) وليس من الحكمة أن يُخاطب القوم بما لا يفهمون (...) وأن يُكلفوا بما لا يعقلون" (الموافقات، ج2 ص ص 69، 85، 88) إلى بنت الشاطئ التي اعتبرت التفسير العلمي للقرآن: "ظلالا وخلطا ماسخا لحرمة الدين ومهينا لمنطق العصر وكرامة العلم" (بنت الشاطئ، القرآن والتفسير العصري ص 7)؛ وبنت الشاطئ نفسها هي التي ردّت على مستشرق سوفياتي قال أن في القرآن أخطاء طبية: وأي ضير في ذلك؟ "فالقرآن ليس كتاب طب، هو كتاب روحي فهل فيه خطأ روحي واحد؟"؛ وإلى الشيخ متولي الشعراوي الذي كتب: "إن الذين يقولون أن القرآن لم يأت ككتاب علم صادقون. ذلك أنه كتاب أتى ليعلمني الأحكام، ولم يأت ليعلمني الجغرافيا أو الكيمياء أو الطبيعة" (محمد متولي الشعراوي، "معجزة القرآن"، ص 47)؟يا صنّاع القرار التربوي إلى متى تتركون المدرسة الإسلامية تنحر أمام أعينكم مستقبل أبنائكم؟!

Aucun commentaire: